حينما كانت رحى الحرب العالمية الثانية لا تزال دائرة في أوروبا، استضافت الولايات المتحدة الأمريكية وفودا من 44 بلدا لحضور المؤتمر الذي بدأ أعماله في الرابع عشر من يوليو من العام 1944، في المدينة السياحية الشتوية بريتون وودز، الواقعة في ولاية نيوهامبشر. وكان الهدف المعلن من المؤتمر الذي تستغرق اجتماعاته ثلاثة أسابيع، يكمن في صياغة أسس نظام اقتصادي جديد للعصر التالي لنهاية الحرب العالمية الثانية. وفي العزلة التي وفرها فندق الدرجة الأولى ماونت واشنطن ( mount washington hotel)، كان على المؤتمرين أن يتفقوا على نظام جديد يضفي الاستقرار على الاقتصاد العالمي،ويحول دون تكرار الأخطاء، التي تخللت عقود الزمن بين الحربين العالميتين. فثلاثينات ذلك القرن على وجه الخصوص، كانت قد شهدت معدلات تضخم عالية،وجرى فيها تبني الكثير من المعوقات التجارية، وتحققت فيها طفرات كبيرة في أسعار الصرف الأجنبي، وندرة ملحوظة في معدن الذهب،وتراجع النشاط الاقتصادي بأكثر من 60 بالمائة.أضف إلى هذا، أن التوترات الاجتماعية كانت عاملا يهدد استقرار النظام القائم بلا انقطاع.
وسبقت المؤتمر، مفاوضات سرية بين البيت الأبيض و الحكومة البريطانية، استغرقت سنوات عديدة وتتوجت في العام 1944، بالتوصل إلى مجموعة خطط ينبغي على النظام النقدي العالمي الجديد أن يرتكز عليها. وإذا أراد المرء معرفة كيف تعاملت نخبة ذاك الزمان،مع مصالح وأهداف البلدان الصغيرة، فما عليه سوى الرجوع إلى تعليق رئيس الوفد البريطاني الاقتصادي جون ماينارد كينز، فعنه ينقل أنه قال: ” إن الأمر الواضح، هو أن اثنين وعشرين دولة، من الدول المدعوة، لم تسهم بأي دور ذي بال في المؤتمر، وأنها كانت حجر عثرة لا غير …إننا هاهنا إزاء أكبر مهزلة، حدثت في السنوات الأخيرة”.
ولم يدم الأمر طويلا حتى تعرض اللورد كينز والوفد البريطاني المرافق له، للمهانة نفسها، التي كالها هو نفسه لمندوبي الدول الصغيرة.ففي سياق المؤتمر، تبين بجلاء، أن ميزان القوى ما عاد في مصلحة بريطانيا العظمى أبدا. فالإمبراطورية البريطانية، التي أرهقتها، أصلا، تكاليف الحرب العالمية الأولى الباهظة، كانت الآن، قاب قوسين أو أدنى، من إعلان عجزها عن تسديد ما بذمتها من قروض. ففي حين كان اقتصادها الوطني يتدهور بشكل كبير، كان تصاعد حركات التحرير الوطني في مختلف أنحاء المعمورة، بمنزلة نذير يشير إلى بلوغ إمبراطوريتها نهايتها المحتومة وزوال هيمنتها الاستعمارية على مقدرات العالم إلى الأبد.
وخلافا لوضع الإمبراطورية البريطانية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، هي المنتصر بلا منازع، في الحرب العالمية الثانية. فالولايات المتحدة ارتقت، عقب الحرب العالمية الثانية، إلى أكبر دائن على المستوى الدولي، وأمست تمتلك نحو ثلثي الرصيد الذهبي في العالم، وتنتج ما يزيد على نصف الإنتاج الصناعي العالمي.
وعلى النقيض من البلدان الأوروبية، كانت الهياكل التحتية، في الولايات المتحدة، لا تزال سليمة. وفي حين كان وفدها يفاوض في بريتون وودز، كانت قيادة الجيش الأمريكي تخطط لشن هجوم نووي على المدينتين اليابانيتين الكبيرتين هيروشيما وناجازاكي. وهكذا، وإذا كان هناك من لا يزال لم يحط علما، بالمكانة التي احتلتها الولايات المتحدة في عالم ذلك الزمن، فإن هذا الهجوم كان، بلا ريب، دليلا قاطعا على أن الولايات المتحدة، قد غدت القوة العظمى الجديدة في العالم أجمع، و الدولة الرائدة، مستقبلا، على المستوى الكوني.
وعلى خلفية هذا التحول الجديد في ميزان القوى، مني اللورد كينز بهزيمة نكراء حينما عرض خطته لنظام اقتصادي جديد. فبصفته مندوب دولة تعاني من معضلات كبيرة في تسديد ما بذمتها من ديون خارجية، كان كينز قد اقترح إنشاء ” اتحاد المقاصة الدولية ” international clearing union ، تكون مهمته تمكين الدولة المدنية ( أي الدولة التي تعاني من عجز في ميزان المدفوعات) من الحصول على ما تحتاج إليه من سيولة أجنبية. كما اقترح على المؤتمر استحداث عملة احتياطية جديدة، اعتقد أنه يمكن تسميتها” البانكور ” ( the bancor ).
لقد رفضت الولايات المتحدة، القيام بدور الممول الرئيسي، الذي كانت الخطة تريد إسناده لها. وهكذا،وخلافا لخطة كينز، عرض رئيس الوفد الأمريكي الاقتصادي هاري دكستر وايت خطة أخرى، حصلت على موافقة المؤتمرين. ورأت ” خطة وايت ” ضرورة استحداث نظام نقدي عالمي جديد، لم تكن له أي قرينة في تاريخ النقود أبدا، نظام نقدي، يتمحور حول الدولار الأمريكي أولا و أخيرا، وذلك لأن الدولار كان قد أنيط به أن يكون الأساس في تحديد باقي عملات العالم، فسعره بات محددا وثابتا مقابل الذهب، بات يساوي 35 دولارا للأوقية الواحدة من الذهب. كما طالبت الخطة الأمريكية بضرورة تأسيس منظمات دولية مختلفة، تكمن مهمتها في مراقبة عمل النظام النقدي الجديد، وفي العمل على استقرار هذا النظام، وذلك من خلال منح القروض للبلدان، التي تعاني من مشاكل في ميزان المدفوعات.
وكان هدف الولايات المتحدة الأمريكية يكمن، من ناحية، في توزيع أعباء القروض على أطراف كثيرة، ومن ناحية ثانية، في أن تضمن لنفسها، القدرة على التحكم بالتدفقات المالية الدولية. وأخيرا وليس آخرا، كان حجم الاقتصاد الأمريكي ونموه السريع، قد فرض على واشنطن، أن تتخذ التدابير اللازمة، أولا، لضمان التزود بما تحتاج إليه من مواد أولية، وثانيا، لفتح أسواق العالم أمام إنتاجها السلعي الفائض عن حاجتها. وللنجاح في هذا المضمار، ما كان هناك بد من أن يزيح الدولار الأمريكي الجنيه الإسترليني، وينهي دوره، بصفته أكثر عملات العالم تداولا وقتذاك. كما اعتقد الأمريكيون، أنــه آن الأوان لأن يحل الوول ستريت، مكان مركز لندن المالي، ويستحوذ على مكانته في لعب دور قطب الرحى بالنسبة إلى العملات التجارية و المالية و الدولية.
وغني عن البيان،أن ربط الدولار بالذهب، اعتماد أسعار صرف ثابتة،كان يعني،الرجوع، جزئيا، أي إلى حد ما، إلى النظام المسمى قاعدة الذهب، هذا النظام الذي كان سائدا منذ العام 1870 وحتى بداية الحرب العالمية الأولى – ولكن بشروط جديدة مختلفة كلية طبعا. ومن خلال تثبيت أسعار صرف كل العملات مقابل الدولار الأمريكي، حجبت الولايات المتحدة الأمريكية، عن باقي المشاركين في النظام النقدي الجديد، حق توجيه سياستها النقدية، بالنحو الضروري، لحماية صناعتها الوطنية. ولا يشط المرء أبدا، إذا أكد أن هذه التدابير الأمريكية قد كانت أولى خطوة على طريق تقييد سيادة بقية دول العالم، هذا العالم الذي أمسى الآن يخضع كلية لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.
كما لم يتصف توزيع حقوق التصويت، الذي اقترحت الولايات المتحدة اعتماده في المنظمات المزمع تأسيسها، بالديمقراطية قط. فلم يكن مقررا أن تتساوى دول العالم المختلفة في الحقوق و الواجبات، أو أن تمارس دورها في المنظمات الجديدة بناء على نسبة مواطنيها مقارنة بعدد سكان العالم، بل بناء على مقدار المبلغ، الذي تدفعه كل دولة للاكتتاب – وهكذا، ومن خلال سلطانها وتفوقها المالي استطاعت واشنطن، بادئ ذي بدء، أن تضمن لنفسها الهيمنة المطلقة على القرارات الخاصة بصندوق النقد الدولي. و لا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن السماح للنظام العنصري الديكتاتوري في جنوب أفريقيا، لأن يكون عضوا مؤسسا في صندوق النقد الدولي، إنما المسائل الإنسانية، لم تتم مراعاتها البتة، ولم تلعب أي دور وقتذاك.
وكانت الإدارة الأمريكية تدرك جيدا، انه لن يكون أمرا سهلا، إقناع الرأي العام الأمريكي بتأييد مشروع يتعارض مع روح الدستور الأمريكي ويتناقض مع المبادئ التي يؤمن بها الكثير من مواطني الولايات المتحدة. ولهذا السبب استعانت الإدارة الأمريكية، بجهد كبير وتكاليف مالية باهظة، بالصحافة للتغطية على الأهداف الحقيقية الموكل إلى صندوق النقد الدولي نفيدها، وراحت من أجل التمويه على المواطنين تستخدم مقولات طنانة رنانة فارغة من قبيل ” التجارة الحرة ” و” القضاء على آليات الحماية التجارية “. وأشارت صحيفة new york herald tribune وقتذاك إلى وجود ” حملة موجهة من قبل أعلى المستويات هدفها بث دعاية مضللة، بكثافة غير معتادة في تاريخ البلاد. ”
وكانت أول مهمة يضطلع بها الصندوق تكمن في إمعان النظر في وضع جميع الدول المشاركة، وذلك بغية تحديد إسهامات الدول الأعضاء في رأسمال الصندوق. فبحسب ما هو متفق عليه، فإن الصندوق مطالب بأن يمارس ” وظيفة رقابية ” لضمان استقرار النظام في الأمد الطويل. وفي واقع الحال، كانت وجهة النظر هذه تعني أن الولايات المتحدة قد غدت صاحبة الحق الدائم، لأن تطلع إطلاعا دقيقا على الأوضاع المالية و الاقتصادية السائدة لدى كل الدول الأعضاء في الصندوق.
وعندما طالب البريطانيون، بعد مضي نصف عام على المؤتمر، بضرورة جراء تعديل على الاتفاقية يحابي مصلحتهم الخاصة، سرعان ما اتضح لهم حقيقة الطرف صاحب السلطان و الكلمة النافذة في الصندوق. فحينما سعت المملكة المتحدة إلى الحصول على تمويل مقداره 3,75 مليار دولار أمريكي، كانت لندن بأمس الحاجة له بناء على ما تكبدت من تكاليف باهظة، في الحرب العالمية، أصرت الولايات المتحدة على ربط الموافقة على منح القرض المنشود بموافقة بريطانيا على اتفاقية الصندوق بلا قيد أو تأخير و بالنحو المعروض عليها. وسرعان ما أعطى هذا الإملاء ثماره، فبعد أسبوعين لا غير، أعلنت بريطانيا عن موافقتها على الشرط الأمريكي صاغرة.
وفي السابع والعشرين من ديسمبر من العام 1945، صادقت 29 حكومة على الاتفاقية بنحو نهائي. وفي مارس من العام 1946، حضر إلى مدينة سافانا في ولاية جورجيا الأمريكية، ممثلو 34 دولة وذلك لحضور أول اجتماع لمجلسي محافظي صندوق النقد الدولي و البنك الدولي. وكان اللورد كينز ومرافقوه من أعضاء الوفد البريطاني، قد أصيبوا مرة أخرى بخيبة أمل كبيرة: فخلافا لاقتراحه بضرورة أن تكون مدينة نيويورك موقعا دائما لإقامة الصندوق، مثله في ذلك مثل منظمة الأمم المتحدة التي أصبح الصندوق، في هذه الأثناء، وكالة متخصصة من وكالاتها، أصرت الإدارة الأمريكية على أن تكون هي وحدها الطرف الذي يحدد مكان إقامة الصندوق. وكيفما اتفق، باشر الصندوق في الأول من مارس من العام 1947، أعماله في واشنطن، في عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت قواعد الحصول على العضوية في صندوق النقد الدولي غاية في البساطة: على البلدان الراغبة في الحصول على العضوية، أن تكشف عن حساباتها، وذلك لكي يكون بالمستطاع تسليط الضوء على أوضاعها وامتحان هذه الأوضاع امتحانا قاسيا. وتعين على هذه البلدان،من ثم، أن تودع لدى الصندوق، انطلاقا من قدراتها الاقتصادية كمية من الذهب، ومبلغا من المال. وفي المقابل، صار من حق هذه الدول التزود بالسيولة الدولية بمقدار ودائعها في حالة تعرض إحداها إلى مشاكل في ميزان المدفوعات. وتعين على الدولة طالبة التمويل دفع فوائدها معينة على المبالغ التي تستلفها. كما التزمت الدول المقترضة بتنفيذ شروط تقضي بأن تسدد الدولة المستدينة ديون الصندوق من قبل أن تباشر بتسديد ديون الأطراف الأخرى، أي أن تكون الأولوية لتسديد ديون الصندوق، باعتبار أنه دائن ممتاز.
وبدأ الصندوق عملياته برأسمال بلغ 8,8 مليار دولار أمريكي، جمعه من حصص الدول الأعضاء، التي تكونت إسهاماتها من 25 بالمائة ذهب، و75 بالمائة بعملة البلد العضو. وكانت الولايات المتحدة قد استحوذت على أكبر حصة، فقد بلغ إسهامها 2,9 مليار دولار. وكان هذا الإسهام ضعف إسهام بريطانيا.
وبهذا النحو، لم تضمن الولايات المتحدة لنفسها قوة تصويتية تبلغ الضعف فحسب، بل استطاعت أيضا أن تصبح الدولة الوحيدة التي تتمتع بنظام التصويت المرجح ويجوز لها استخدام حق النقض ( الفيتو ) في كل عمليات التصويت القادمة.
ولقيادة الصندوق جرى اختيار مجلس محافظين يشرف على اثني عشر مديرا تنفيذيا. وفي حين اختير سبعة من هؤلاء المديرين من قبل الأعضاء المشاركين في الصندوق، جرى اختيار الخمسة الباقين من قبل المجموعة، التي تشكل مجموعة الخمسة الكبار في الصندوق، أي من قبل المجموعة، التي تشكل مجموعة الخمسة الكبار في الصندوق، أي من قبل المجموعة، التي تشكل مجموعة الخمسة الكبار في الصندوق، اي من قبل مجموعة صارت قيادتها من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية. وكما هي الحال بالنسبة إلى المنظمة الشقيقة، أعني البنك الدولي، تقع مكاتب صندوق النقد الدولي في شارع بنسلفانيا ( pennsylvania avenue)، في واشنطن ولا تبعد عن البيت الأبيض أكثر من بضعة دقائق، مشيا على الأقدام.
وبحسب اتفاقية تأسيس الصندوق، تكمن أهداف الصندوق في:
- تشجيع التعاون الدولي في ميدان السياسة النقدية،
- تيسير التوسع و النمو في التجارة الخارجية،
- العمل على تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف، و المساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف،
- تدعيم الثقة بين البلدان الأعضاء، وإتاحة الفرصة لها لأن تستخدم موارده العامة مؤقتا بضمانات كافية، كي تتمكن من تصحيح الاختلالات في موازين مدفوعاتها دون اللجوء إلى إجراءات مضرة بالرخاء الوطني أو الدولي.
- العمل على تصحيح الاختلالات في موازين المدفوعات الدولية الخاصة بالدول الأعضاء بأسرع وقت ممكن، ودون اللجوء إلى إجراءات مضرة بالرخاء الوطني أو الدولي.
إن هذه الصياغات الرسمية ترن في أذن السامع كأن صندوق النقد الدولي مؤسسة حيادية لها منزلة تعلو على الدول ولا تخضع لعوامل سياسية، مؤسسة يكمن هدفها الرئيسي في ترك العالم الاقتصادي يعمل بأكبر قدر ممكن من النظام وفي تصحيح الاختلالات بأسرع وقت متاح. وما كان الأمر محض مصادفة قط.
فهذا الانطباع كان هو الانطباع الذي أراد الأفراد الذين صاغوا العبارات أعلاه، تعميمه وغني عن البيان أن هذه الصياغة قد تركت ما أريد لها من تأثير: فهذه الصياغات، بالذات، هي العبارات، التي يرددها سياسيون وخبراء و وسائل إعلام دولية على مسامع الرأي العام العالمي منذ ما يزيد على ستة عقود من الزمن.
وليس ثمة مجال للشك، في أن صندوق النقد الدولي ليس إلا مؤسسة كانت الولايات المتحدة هي القوة التي أنشأتها و الطرف المهيمن عليها، و الدولة التي رسمت خطوطها العريضة بما يخدم مصالحها الخاصة، إنه، وبعبارة أخرى إحدى المؤسسات، التي أنشأتها القوة العظمى الجديدة، لتفرض ليس هيمنتها العسكرية فحسب، بل هيمنتها الاقتصادية، أيضا، على العالم. ومن أجل ذر الرماد في عيون الرأي العام وتحويل الأنظار عن هذه الأهداف و النوايا، استحدث المؤسسون الأوائل لصندوق النقد الدولي في العام 1947، تقليدا تمسكت المؤسسة بانتهاجه حتى يومنا الحاضر – إسناد قيادة الصندوق لشخصية غير أمريكية.
وهكذا وقع الاختيار، في العام 1946، على المواطن البلجيكي كميل جوت ( camille gutt) كأول مدير عام للصندوق. وحينما كان وزيرا للمالية في بلاده أعار هذا الاقتصادي البلجيكي البريطانيين كمية من الذهب، لمساعدتهم على تمويل إنفاقهم الحربي، وأسهم في استمرار المعارك في أثناء الحرب العالمية الثانية من خلال تزويد البريطانيين بشحنات من الكوبليت و النحاس مستخرجة من مناجم الكونغو، المستعمرة البلجيكية في أفريقيا، وكسب ود الإدارة الأمريكية وذلك لأنه كان قد زودها سرا، بمادة اليورانيوم، المستخرجة من مناجم الكونغو أيضا،وسهل على الولايات المتحدة، بهذا الصنيع،الاستمرار في تنفيذ برنامجها النووي. أما بالنسبة إلى الطبقة العاملة في بلجيكا، فإن كميل جوت، لم يكن في جعبته في العام 1945، غير تنفيذ إصلاح نقدي ( دخل التأريخ باسم ” عملية جوت “) قضى، بنهجه المتطرف، على نسبة كبيرة من مدخرات الطبقة العاملة.
وقاد كميل جوت صندوق النقد الدولي من العام 1946 حتى العام 1951. وكان قد ركز جهوده، خلال هذه الفترة، على اعتماد نظام أسعار الصرف الثابتة، وبذل كل ما في الإمكان من أجل إحكام الرقابة على هذا النظام. وبهذا الصنيع، ضمن جوت للشركات الأمريكية و الدولية العملاقة الأساس المتين للتمتع بأمان و استقرار في تصدير السلع وشراء المواد الأولية، ما كانا معهودين في سابق الزمن، بفعل الصدمات العنيفة، التي كانت تطرأ على أسعار صرف عملات العالم. وبالإضافة لهذا وذاك، كان جوت قد عبد الطريق، أمام المصارف الأمريكية العملاقة، وسهل عليها، منح القروض الدولية بلا إشكاليات ومخاطر يعتد بها، وفتح أمام رأس المال الدولي، المنقب عن فرص استثمارية مجزية، ولوج كل أقاليم العالم تقريبا، بلا عوائق تقف في طريقه.
على صعيد آخر، كان ثمة تطور يقض مضاجع صندوق النقد الدولي: التحولات السياسية الكبيرة، التي اندلعت في السنين التالية للحرب العالمية الثانية، و التي كانت قد ضيقت على الصندوق مساحة فاعليته. فقد انتهز الاتحاد السوفييتي الوضع الذي تبلورت ملامحه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وراح يوسع من دائرة نفوذه. وبما أن هيمنة ستالين ورفاقه، كانت لا تزال تستند إلى ما نفذته الثورة الروسية العائدة إلى العام 1917 من تأميم لعناصر الإنتاج، أسدل ستالين ورفاقه الستار الحديدي على ما سمي ” الكتلة الشرقية ” بعد تقسيم العالم بين القوى العظمى ورسم حدود جديدة في أوروبا، وراحوا من ثم، ومن خلال أنصارهم الحاكمين في هذه الكتلة أيضا. وفي الواقع، لم يكن تحقيق مصالح الطبقة العاملة هو الهدف المتوخى من هذه الإجراءات، بل كان يكمن في جعل الكتلة الشرقية منطقة نفوذ تخدم مصالح الاتحاد السوفييتي وتسهل عليه نهب خيرات هذه البلدان. ومهما كان الحال، الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن هذا التحول التاريخي كان قد جعل من بولندا و ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا و المجر ورومانيا وبلغاريا أسواقا لا تصل إليها الرأسمالية المالية (finance capitalisme) الدولية.
كما تسبب تسلم ماو تسيتونغ مقاليد الحكم في الصين في العام 1949، وتطبيق الاقتصاد الموجه مركزيا، في إغلاق حدود الصين في وجه المستثمرين الغربيين، واندلاع الحرب الكورية في نهاية المطاف، التي تكبدت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية سياستها الرامية إلى ردع كتلة النفوذ السوفييتية (containment)، خسائر بشرية بلغ عددها أربعة ملايين فرد، وذلك لتبليغ العالم رسالة واضحة المعاني بينة المغزى، مفادها أن القوة العظمى في العالم قاطبة، لا تسمح، ولا حتى لدولة واحدة أن تخرج على إرادتها أو ترفض تنفيذ قراراتها.
المصدر:
كتاب، صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية، الكاتب، بريتوريا أرنست فولف، ترجمة، الدكتور عدنان عباس علي، نشر سلسلة عالم المعرفة، العدد 435.أبريل 2016، ص، من 23 إلى 32.
رقن http://arabic.cadtm.org
المصدر : مؤتمر بريتون وودز: بداية الابتزاز